Tunisie

عودة إلى المؤمن العلماني

عندما نستعمل عبارة « المؤمن العلماني » يتبادر إلى الذهن عند الكثيرين منا أن هذا المؤمن هو – في كل الأحوال مؤمن بدين من الأديان، أعني أنه يقول بوجود إله ورسل ونصوص وطقوس ورجاءات مابعد دنيوية إلخ. وفي الحقيقة ليس هذا المعنى إلا واحدا من المعاني . فعبارة « المؤمن العلماني » لا تحدد مضمون الإيمان، ويمكننا دون أي تناقض لا فقط أن نتصور هذا المؤمن على أنه قد يكون مسلما أو مسيحيا أو يهوديا أو بوذيا أو إحيائيا .. إلخ، وإنما يمكنننا أن نتصور أيضا أنه غير مؤمن (مما يعني أن إيمانه هو عدم الإيمان، وأن مذهبه في روحيته الخاصة يقوم مثلا على « لا أدرية » جذرية، أو على ريبية جذرية، أو على تجريبية خالصة، إلخ.) .. ما المهم في ذلك؟ المهم هو أن مضمون هذا الإيمان (الذي يمكن كما بينا أن يكون مضمون عدم إيمان) هو مضمون لا يهم إلا صاحبه، وأنه مضمون شخصي خالص لا أثر ولا تأثير له في دائرة العلاقة بعموم الناس : لا في تفضيل بعضهم على بعضهم ولا في تأهيل بعضهم على بعض، ولا في تقريب بعضهم على بعض: ما المقصود من وراء ذلك؟ إن المقصود هو أن هذا الموقف الشخصي (إيمانا كان أو عدم إيمان) لادور له في ترتيب التعامل مع الناس، وأن هذا التعامل تحدده القوانين التي تقوم على المصلحة العامة مثلما تحددها الدساتير. وهذا يعني أن وضع الدساتير مهمة لا يمكن أن يقوم بها في جزئها الكوني مجرد فقهاء القوانين وإنما مفكرون عانقوا الإنسانية والكونية بحق. إن واضعي الدساتير هم الأنموذج الحقيقي للمؤمن العلماني لأنهم هم الذين يضعون القواعد والقوانين التي بموجبها يتصرف كل فرد من الأفراد كمؤمن علماني وذلك مهما كانت قناعته الشخصية وإيمانه (أو عدم إيمانه ) الفردي

لذلك أجد أن تجربة وضع الدستور في تونس قد كانت لحد اليوم تجربة فاشلة لأنها قامت إما على توافق بين إيمانات أو إيديولوجيات مختلفة أو على فرض إيمان واحد أو رؤية واحدة على الناس. ولكل من هذين الأسلوبين مبرراته السوسيولوجية أعني تلك التي تأخذ في عين الاعتبار بمدى ما سيكون الدستور مقبولا من قبل أغلبية ما: لو سارت الأمور وفق المنطق الحقيقي للدساتير (وهو منطق فلسفي بالضرورة) لكان معيار المقبولية لا يتم تصوره وفق مدى ما يتناسب الدستور مع إيماني وإيديولوجيتي ولكن وفق مدى ما يمنعني أو لا يمنعني من أن أكون حرا وشخصيا في إيماني. إن أوفق الدساتير لي ليس الدستور الذي يكون صدى لإيماني وإنما هو الدستور الذي لا يتدخل في إيماني الشخصي ولا يمنعني منه ولا يخول لي أن أمنع غيري من إيمانه الشخصي ولا أن أتدخل فيه. وطالما كان الدستور حاملا لإيمان أو لهوية فهو دستور مؤقت بالضرورة وغير إنساني حتما… لا يكون الدستور إنسانيا وكونيا إلا متى كان لا يمنعني من ذلك. ربما كان هذا التصور مؤديا إلى فكرة « كوسموسياسية » للوجود وللتاريخ الإنسانيين ولكن لم لا ؟

محمد أبو هاشم محجوب