المهم والأهم

استطاعت تونس أن تجعل الولايات المتحدة الأمريكية تمتنع عن استخدام الفيتو إثر عملية حمام الشط الغادرة عندما تجنبت وضع القضية في سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وقدمتها بوصفها اعتداء مسلحا على دولة عضو بالأمم المتحدة، وهو أمر مرفوض دوليا، ولم تمنح الفرصة للطرف المقابل كي يعوّم المداولات في نقاش بلا طائل حول الإرهاب وملاحقة الإرهابيين وما يزعم أنه حقه في الدفاع عن النفس
بعد تعديل نقطتين تتضمنان كلمة « إرهاب الدولة » في نص الشكوى صدر القرار التاريخي الذي يدين إسرائيل ويلزمها بالتعويض والاعتذار لتونس، وأصبح ذلك الملف أحد مفاخر الديبلوماسية التونسية ونجاحاتها الكبرى، لأنه ملف واقعي وطني وبراغماتي بامتياز، لم يقع في الفخ حين تجنب أن يضع نفسه لسان دفاع عن منظمة التحرير الفلسطينية رغم معرفة العالم بأسره أنها الهدف الأول من عملية (الساق الخشبية) تلك
قد تكون هذه الحادثة نموذجية لفهم عبارة (المهم والأهم) التي اختصر بها الباجي قايد السبسي في عنوان مذكراته رؤية بورقيبة للدولة والسياسة والوجود، فأمام المنتظم الأممي يومها كان على السياسي التونسي أن يوازن بين أمرين وأن يضع الأهم قبل المهم، وحرمة الدولة الوطنية تأتي عنده في المقام الأول، لكن هذا الاختيار لن يصمد طويلا أمام حركة الزمن العاصفة وسوف تأتي أجيال جديدة من السياسيين الذين يرون عكس ذلك تماما
ورجاحة الموقف التونسي من القضية الفلسطينية، يشهد عليها قادة منظمة التحرير أنفسهم حين يؤكدون أنهم لأول مرة في تاريخ منظمتهم وجدوا أنفسهم أحرارا على أرض تونس قبل أن يغادروها إلى (ما يشبه الوطن) على حد تعبير الشاعر الكبير أحمد دحبور. استطاعوا في تونس أن يتنفسوا هواء نقيا جديدا مختلفا وفيها وضعوا معادلة (المهم الأهم) أمامهم قبل أن يقرروا الذهاب إلى المفاوضات وحل الدولتين بعد أربعين عاما من خطاب الزعيم الحبيب بورقيبة في أريحا
عندما سئلت (غولده مئير) وهي وزيرة للخارجية عن رأيها في دعوة بورقيبة إلى التسوية السلمية رفضت الرد متعللة بأن خطابه ليس بين يديها! ما دفع صحفيا إلى التهكم عليها قائلا: إن جهاز الاستخبارات الاسرائيلي الذي ذاع صيته في مختلف أنحاء العالم فشل في القيام بمهمة صغيرة: أن يحصل لوزيرة الخارجية على نص التصريحات التي أدلى بها الرئيس بورقيبة وراء أسوار القدس! وقد كان الاقتراح التونسي مربكا فعلا للكيان المحتل، فتعمد تجاهله في انتظار أن يقبره العرب بأيديهم، وقد فعلوا
العدو الإسرائيلي الذي يتقدم الدول العربية بنحو عشرين مرتبة في قائمة الدول الأكثر إنفاقا على البحث العلمي يعرف جيدا أنه ليس في حاجة إلى محاربة العرب، فهم سيحاربون بعضهم البعض، والانقسامات الداخلية في كل بلد عربي هي أجمل هدية يتلقاها منهم يوميا، انقسامات تزيد في تخلفهم عن الحضارة وتبعدهم أكثر فأكثر عن روح العصر، والتوحش الذي شاهدناه في المركب التجاري بالمرسى دليل على ذلك، فتلك الكراسي المتطايرة في الهواء بين الإخوة الأعداء والدماء التي تسيل من الوجوه، وواجهات المغازات المهشمة، كلها صور لا تطعم محتاجا في غزة بقدر ما تدخل السرور على قلب العدوّ
بقلم عامر بوعزة

