Tunisie

اليد القصيرة

علبة دواء يفوق سعرها في بعض الدول خمسة وعشرين ألف دولار أمريكي، توصف لبعض الحالات المتقدمة من مرض سرطان البروستات، عندما يكفّ جسد المريض عن الاستجابة للعلاجات الأخرى، وهو باهظ الثمن في كافة الأسواق العالمية، لأنه يستخدم تقنية متقدمة توصل المواد المشعة إلى الخلايا السرطانية لتدميرها

لا يوجد في الانترنت تقييم دقيق ومحايد لقدرة هذا الدواء وغيره على تحسين حياة المرضى أو النتائج التي حققها منذ دخوله حيز الاستعمال، إذ أن وصفه في حالة انتشار الورم يعني بالضرورة أن استخدامه لن يؤدي إلى القضاء نهائيا على السرطان. وكل ما يقال عنه أنه لا يستخدم إلا في المستشفيات تحت رقابة طبية دقيقة. وسعره الباهظ يجعله حكرا على الدول الغنية التي توفر لمواطنيها رعاية صحية عالية المستوى، وهو أمر نادر، فحتى الولايات المتحدة الأمريكية ظل ساستها منذ عقود يتلاعبون بملف التغطية الاجتماعية ويزينون به شعاراتهم الانتخابية

أما الدول الفقيرة فأوضاعها الاقتصادية الصعبة تفرض عليها خيارات تجعلها لا تعطي الأولوية لمثل هذه الأدوية التي قد يصفها الأطباء لمرضاهم حتى يبقوا باب الأمل مفتوحا أمامهم لفترة أطول. يضعنا هذا أمام اختبار حقيقي لمفهوم الدولة التي مهما تعالت شعاراتها ومبادئها الدستورية عن الحق في الصحة والحياة للجميع تجد نفسها أمام قرارات براغماتية موجعة تحت شعار (العين بصيرة واليد قصيرة)

الدولة آلة بلا قلب وبلا مشاعر، تنظيم سياسي للمجتمع يرتب أولوياته على أساس مصالح الأغلبية من أجل السلم الاجتماعي، حتى إذا ما استخدم قادته عناق الفقراء وتقبيل الأطفال والتلويح للجماهير بقبضة يد متشنجة طعما لاصطياد الناخبين وامتصاص أمخاخ الرعاع. الدولة لم تنجبنا من رحمها، بل علينا أن ننظر إليها بوصفها جهازا ضخما معقدا يتكون من إدارات وقوانين ومصالح، وهو يستطيع فعليا أن يؤجل أمام أولويات أخرى استيراد أدوية باهظة الثمن دون اعتبار حاجة البعض الملحة لها من أجل البقاء على قيد الحياة

أما أزمتنا نحن في تونس فلها وجهان، التعتيم الممنهج الذي تمارسه أجهزة الحكومة استهتارا بحق المواطن في المعلومة، وهو حق لا يقل أهمية عن حقه في الحياة، المواطن ذاته الذي تفرض عليه الدولة الإنفاق عليها وتطالبه بالتضحية من أجلها تحت غطاء (الوطن)، وهو الآن يضحي بكل شيء حتى بأقل حقوق المواطنة أحيانا من أجل حريته وقوته ولا شيء أكثر من ذلك

أما الوجه الثاني ففي علاقتنا نحن بالدولة، العلاقة العاطفية التي لم تتغير منذ عقود رغم كل التطورات التي شهدها المجتمع، وهي علاقة لا تتيح المجال للمحاسبة أو فضح التضاد بين الخطاب ونقيضه وتجعل العامة يتخيلون أن الدولة يمكنها حقا أن تصرف لبعض المرضى في مرحلة متقدمة من (صراعهم المرير مع المرض) دواء بآلاف الدولارات، انطلاقا من اقتناعهم الذاتي بأن الجمهورية أمهم ورئيسها والدهم الحنون، في إنكار مستمر للواقع الذي صار يقول عكس ذلك تماما

بقلم عامر بوعزة