الهريسة والأعصاب

صرّح أحد الأخصّائيين التونسيين مُؤخّرا أن أكثر من ثلاثة ملايين تونسيين يُعانون من ضغط الدم بسبب غلاء المعيشة المتزايد والضغوطات النفسية والأزمات المتتالية، مؤكدا كذلك أن التعرض لارتفاع الضغط النفسي يُمكن أن يُؤثّر على صحة القلب ويتسبب في الأمراض السرطانية
هذا ما أدّى إليه تعدد الأزمات التي تعيشها بلادنا في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والبيئية… حتى أن التونسيين أصبحوا يبحثون بالمجهر عن شيء يُفرحهم. فابتهجوا بتصفية المنتخب الوطني وإقصائه من الدور الأول في نهائيات كأس العالم مُعلّلين ابتهاجهم بفوز مشكوك في صحّته في إحدى المباريات الثلاث التي خاضها. وابتهجوا إلى حدّ تبادل التهاني في وسائل الإعلام إثر إدراج « الهريسة » التونسية في قائمة التراث العالمي اللّامادي لليونسكو، وكأنما « الهريسة » أصبحت مفخرة التونسيين وإنجازا عالميّا جديدا، علما بأن هذه المادّة موجودة في عديد دول العالم، بأسماء أخرى وبطعم وبمُكوّنات شبيهة بها إلى حدّ كبير. وهاهم ينتظرون سببا آخر، قد يأتي قريبا أو بعيدا، وقد لا يأتي، لتظهر على وجوههم ابتسامة عزّت في الفترة الأخيرة
وبعد عزل السلطة التنفيذية لرئيس بلديةٍ مُنتخب، يُمكن القول إن الوضع السياسي بعيد جدا عن الطريق المُؤدّية إلى إرساء نظام ديمقراطي. وفي هذا الصدد، يتساءل الملاحظون إن كان سبب هذا العزل هو انتماء المعني بالأمر إلى التيار الإسلامي، أم لأنه رفض الانصياع إلى أوامر والي بنزرت بتنظيف الشوارع التي سيمرّ بها رئيس الجمهورية لدى زيارته لتلك المدينة يوم 15 أكتوبر الماضي بمناسبة عيد الجلاء، مُعلّلا موقفه بأنه لا يجب إخفاء الوضع المتردّي بالمدينة على الرئيس؟ وفي كلتا الحالتيْن، فإن قرار عزل رئيس بلدية مُنتخب لم يكن مفهوما
ليس هذا الموقف هو الوحيد الذي لم يكن مفهوما. بل أن الغموض هو السمة السائدة في المشهد السياسي الحالي، بعد أن غاب الإعلام وعمّ التعتيم وانعدمت الشفافية. فما معنى، مثلا، أن نسمع عن زيارة رئيسة الحكومة التونسية إلى الجزائر عن طريق الإعلام الجزائري قبل الحديث عنها في وسائل الإعلام التونسية، وأن نسمع عن زيارة رئيس الحكومة الليبية إلى بلادنا عن طريق الليبيين قبل الإعلان عنها في تونس؟
ولعلّ أبرز انعدام الوضوح في السياسة التونسية يظهر في أجلى معانيه في المواقف الرسمية المتناقضة بين رئاسة الجمهورية من جهة والحكومة من جهة أخرى، خاصّة فيما يتعلّق بمواضيع حياتية وحساسة. فنسمع رئيس الجمهورية يُصرّ على عدم التخلي عن المؤسسات العمومية وعلى مواصلة سياسة الدعم للمواد الأساسية، في حين نسمع من الحكومة أنها سائرة في الطريق المعاكس الداعي إلى التفويت في عدد من المؤسسات العمومية وإلى الشروع في رفع الدعم عن بعض المواد الأساسية، بل أنها شرعت في ذلك بعد الزيادة الخامسة في سعر المحروقات هذه السنة. ويبدو أن الحكومة ستُواصل في هذا النهج بعد أن تمّ الحسم في الموضوع مع صندوق النقد الدولي
ولأن أخبارنا أصبحنا نستقيها من الجهات الأجنبية التي نتعامل معها قبل الإفصاح عنها في ربوعنا، فإننا سوف ننتظر الخبر اليقين بخصوص التفريط في المؤسسات العمومية وفي خصوص رفع الدعم، عندما ينشر صندوق النقد الدولي نص الاتفاقية المُبرمة بينه وبين الدولة التونسية
تلك هي بعض العينات التي تُحيّر التونسي وتجعله غير قادر على معرفة كيف سيكون وضعه غدا، علاوة عن تراكمات الأزمات جرّاء نقص البضائع وغلائها، وجراء التذبذب في السياسات التعليمية والبيئية وما إلى ذلك…
لكن، وحتى نعود إلى ما بدأنا به الحديث، يبدو أن القول بأن التونسي سيتعوّد على غلاء الأسعار وعلى النقص في المواد المعيشيّة، وسيتعوّد على الغموض في المواقف وعلى تضاربها، وسيتعوّد على المحاكمات بسبب رأي أو مقال أو تصريح… كل ذلك غير صحيح بالمرّة، بما أنه بصدد مراكمة الانشغالات والحسرة في قلبه وفي جوارحه، وهي مراكمة قال الإخصائي في علم النفس إنها تُؤثّر بشكل خطير على صحّة المواطن، لا نفسيّا فقط، وإنما يُمكن أن تكون سببا في ارتفاع ضغط الدم، وحتى في التسبّب في الإصابة بالسرطان
فهل أن إطارات البلاد والمهاجرين في قوارب الموت أصبحوا يُغادرون بلادهم، لا فقط من أجل لقمة العيش، وإنما أيضا حفاظا على صحّتهم النفسية والجسدية؟
الواضح، هو أن « الهريسة » في اليونسكو سوف تُدخل بعضا من السرور على أكثر المواطنين بحثا عن خبر يريدونه سارّا، لكنهم سيُواصلون البحث عن مُسكّن آخر لتهدئة أعصابهم
منير الشرفي