Tunisie

الجلاء الزراعي أو القفز على التاريخ

في الثاني عشر من شهر ماي 1964، الطاولة التي وقع عليها الصادق باي وثيقة الحماية الفرنسية في باردو، هي التي وقّــع عليها الرئيس الحبيب بورقيبة وثيقة استرجاع الأراضي الفلاحية من المعمّرين، ومنذ ذلك التاريخ صار الشعب التونسي يحتفل بالجلاء مرتين: الجلاء العسكري في أكتوبر والجلاء الزراعي في شهر ماي. لكن البلاغ الذي أصدرته رئاسة الجمهورية في هذا المناسبة والذي تحدث عن لقاء جمع الرئيس بوزير الفلاحة غيّر هذه العبارة بقوله (الذكرى الحادية والستين لصدور القانون عدد 5 المؤرخ في 12 ماي 1964 المتعلّق بملكية الأراضي الفلاحية في تونس)، فلماذا يعوض البلاغ الرئاسي مصطلحا رسميا يعرفه الجميع بعبارة طويلة جافّة مثل قرن الخروب اليابس؟

من أجمل دروس البلاغة في كليات الآداب والعلوم الإنسانية قصة ذلك الرجل الضرير الذي كان يتسول الناس بعبارة (أنا أعمى)، فلم يكن بالكاد يحصل شيئا، إلى أن مرّ به شاعر عبقري فغيرها بعبارة (يأتي الربيع ولا أراه). وتعتبر تلك القصة مدخلا وجيزا لفهم أسرار البلاغة ومعجزاتها، وكيف يمكن أن يتلفظ بالمعنى الواحد في صيغ شتى، فعندما نعوض عبارة (الجلاء الزراعي) بعبارة (القانون المؤرخ في كذا وكذا) كأنما محونا عبارة الشاعر، وأعدنا عبارة (أنا أعمى)

لا أنحاز في هذا للبلاغة على حساب القانون، لكنني أنتصر للتاريخ، فليس المطلوب من صائغ البلاغات الرئاسية أن يكون شاعرا كي يرفع معنويات (جوقة من العميان)، بل مطلوب منه أولا أن يكون وفيا للتاريخ وأمينا عليه. لا سيما أن الرئيس ذاته شديد الحرص على دقة المصطلحات وإصابتها المعنى، أليس هو من نبه إلى أن المعاهدة التي وقع عليها الصادق باي هي معاهدة (حماية) لا استعمار، وخيب الأستاذ الذي يقبع داخله ولا يفارقه أمل الدهماء

المصطلحات جزء من الرؤية والمقاربة، ولقد كان واضعو عبارة (الجلاء الزراعي) عباقرة بحق في المساواة بين المعمر والجندي، فكلاهما مستعمر أجنبي. والعبارة على إيجازها تختزل ثمانين عاما من الجور والعسف والاحتلال، وهي ليست عبارة مجازية، ففي ذلك اليوم أصبحت كل الأراضي الفلاحية فعليا على ملك الدولة التونسية. ولذلك ففضلا عما في توقيع بورقيبة على طاولة الباي ذاتها من معان رمزية فإن عبارة (الجلاء الزراعي) مضمخة بدماء الشهداء الذين قضوا في ميدان الشرف من أجل استرجاع العزة والسيادة والأرض. وإلغاؤها بعد أكثر من ستين عاما يعكس رؤية جديدة للتاريخ وموقفا من فكرة الجلاء ذاتها ينسجم والاعتقاد الرئاسي في أن تونس ماتزال تخوض (حرب تحرير وطني) لأن الأراضي الفلاحية طالتها وفق البلاغ (أيادي من استولى عليها دون أيّ وجه شرعي)

لم يدشن الرئيس في هذه المناسبة مشروعا فلاحيا وطنيا رائدا، ولم يغرس حتى شجرة على حافة طريق صحراوي، ولم يعلن عن قرارات رئاسية تبعد عن الفلاحين شبح الفاقة والعوز، بل اكتفى بإسداء تعليماته للوزير بمسح أملاك الدولة من الأراضي مسحا شاملا وتسويغها للشركات الأهلية

وهكذا بقدر ما كانت عبارة (الجلاء الزراعي) تجمع التونسيين على ذاكرة واحدة وهدف واحد ومصير مشترك، أصبحت هذه الذكرى مناسبة جديدة للتفرقة بينهم ومقدمة لإجلاء بعضهم وإحلال البعض الآخر مكانهم، العزاء الوحيد أمام هذه الجرافة العملاقة التي تلتهم الأخضر واليابس أن هذا المشروع الذي ينضج على نيران الحقد والكراهية ما يزال حتى الساعة مجرد كلام لا غير، وسيظل كذلك، بينما التاريخ لا تغيره الشعارات وحدها

بقلم عامر بوعزة