البلاد الهايلة
الطبيب الذي تصدر فجأة منصات التواصل الاجتماعي وهو يغني (نهارك زين) فتلقفته قنوات التلفزيون وحوانيت البودكاست، ما هي الرسالة التي يريد إيصالها للجمهور؟ هل يريد مثلا أن يقول للشباب: الحياة حلوة بس نفهمها، وإن التعليم وحده هو الذي يقود إلى هذه الحياة الحلوة السهلة والمريحة؟ هل يريد إقناعنا مثلا بأن التفاؤل والابتسام والرقص والسباحة في المسبح المنزلي وإقامة الحفلات هي المكافأة التي يستحقها الناجحون؟
هذه هي الرسالة الواضحة والمباشرة التي انبهر بها الجمهور وكأنه يعيد بسذاجة اكتشاف أصابع يده الخمسة، وكأنه لا يعرف من قبل أن التعليم هو المصعد الاجتماعي، وأن كل أشكال التسلق الأخرى تظل دونه أهمية ومرتبة؟ لكن الرسالة المشفرة التي تكمن بين السطور تقول لهذا الجمهور: إن هذا (النعيم) هو أيضا نتيجة الانتصار للخلاص الفردي والاهتمام بالشأن الخاص أولا وقبل كل شيء ومتابعة كل هموم العالم من حولك بمنطق (اعمل نفسك ميت)
لست أرى في صور الطبيب المذكور وفيديوهاته والسعادة التي تكسوه من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه (اللهم لا حسد) إلا نموذجا للأنانية والانقطاع عن هموم المجتمع ودعوة ضمنية إلى التسليم بحتمية الأمر الواقع وعدم تحمل أي مسؤولية في إطار (الشأن العام)، وأية مفارقة هي عندما نجد كثيرا ممن نجحوا في حياتهم مثله لكنهم اختاروا طريقا مختلفا أساسه الانتماء إلى المجموعة والعمل لأجل الصالح العام عبر الجمعيات والأحزاب ومختلف التعبيرات الممكنة عن الذات الفاعلة والمواطنة الإيجابية يقبعون اليوم في السجون! من بينهم المحامي والطبيب ورجل الأعمال والصحفي ولو اختار هؤلاء شعار (اخطى راسي واضرب، وأنا ومن بعدي الطوفان) لكانوا اليوم في وضع مختلف
ما الذي ينقص هذه الصحراء القاحلة التي أجبر فيها الجميع على الصمت غير تمثيلية سخيفة تظهر مباهج الحياة التي يمكن أن يجنيها الشخص الناجح عندما يغمض عينيه عن طوابير المخابز والكنام، والزيت المدعوم، ويصم أذنيه عن قضايا الشح المائي والتغير المناخي، وتدفق المهاجرين، وقوارب الموت، والانتخابات؟ تمثيلية جاءت في الوقت المناسب لتؤكد لمن يكذبون الواقع ويصطادون في الماء العكر ولا يرون إلا النصف الفارغ من الكأس أن (بلادنا هايلة) رغم أنوفهم
إن الرسالة التي يجهد هذا الطبيب نفسه في نشرها عبر مختلف المحامل -رغم أنها لا تضيف شيئا كبيرا لكل ذي عقل- تمثل خدمة ثمينة للسلطة. فأي شيء أفضل لها من إعطائك المثال والقدوة عن السعادة التي ستحظى بها في بلادك لو اكتفيت بشؤونك واغلقت فمك.
بقلم عامر بوعزة